“أريد أن أستريح، أتمدد، أستلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر، لا أريد أن أتحرك قط. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف! أي والله أكثر من كاف”
“هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا ؟؟”
“كنت أعيش من أجل غدٍ لا خوف فيه، وكنت أجوع من أجل أن أشبع ذات يوم، وكنت أريد أن أصل إلى هذا الغد، لم يكن لحياتي يومذاك أي قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بأن السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لا حدود .. وبأن هذا الطفل، الذي تكسَّرت على شفتيه اابتسامة الطمأنينة، سوف يمضي حياته هكذا ممزقًا كغيوم تشرين، رماديًا كأوديةٍ مترعة بالضباب، ضائعًا كشمسٍ جاءت تشرق فلم تجد أفقها ..
ولكن السماء والأرض، وكل شيءٍ، كانت على شكلٍ مغاير لآمال الصغير .. لقد مضت الشهور قاسية وبطيئة، وحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه، المسؤولية شيءٌ جميـل .. ولكن الرجل الذي يواجه مسؤولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئًا فشيئًا تحت ضغط الطلب .. كل شيءٍ في العالم كان يقف في وجهه .. كل إنسانٍ يصفعه، وكل يومٍ يمر كان يبصق في وجهه شعورًا مرًا حاد المرارة بالتقصير.”
“كان مشوشا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ”
“إن الأشياء الصغيرة، حينما تحدث في وقتها، يكون لها معنى أكبر منه. أقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير..”
“قال لي مرة فيما هو يقلب جريدة في يده : “اسمع يا فيلسوفي الصغير , الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب ، أليس كذلك ؟ يقضي نصفها في النوم . بقي ثلاثون سنة . اطرح عشر سنوات ما بين مرض وسفر وأكل وفراغ . بقي عشرون ؛ إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء , ومدارس ابتدائية . لقد بقيت عشر سنوات . عشر سنوات فقط ، أليست جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة ؟” بهذه الفلسفة كان يقابل أي تحد يواجهه . كان يحل مشاكله بالتسامح وحين يعجز التسامح يحلها بالنكتة وحين تعجز النكتة يفلسفها .”
“سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط.”
“مأساتي و مأساتُك أنني أحبك بصورة أكبر من أن أخفيها و أعمق من أن تطمريها”
“لا أحد على اي حال يعرف كيف ترتب الحياة نفسها .. احيانا يحسب المرء ان قصة ما انتهت .. فاذا بها تبدأ .. ان مستقبل انسان كامل تراه فجأة متعلقاً بحادث صغير لا قيمة له .. ان عقدة المسبحة اصغر من حباتها ولكنها اذا انفكت كرت ثلاث وثلاثون حبة واحدة اثر الاخرى .. واحيانا ينحرف الماعز الاكبر في القطيع وراء قشرة برتقالة فيتبعه القطيع كله .. وقد يجتاز سياجاً فيشتبك الرعاة بالمزارعين ويموت الناس وتفقد دواب وتعقد ولائم الصلح ..فيأكل الفقراء والمجانين والاطفال .. ويرى مدعو ما فتاة ما هناك فيخطبها ويتزوجها ويتنجب له اولادا و بناتا يعيشون ويموتون ويمشي في جنازاتهم رجال لا يعرفونهم خطوات السنة العشر ويتحدثون وقد يتفقون على شيء او يتشاجرون “
“كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم- أولئك الذين يكتبون ف الجرائد- يجلسون في مقاعد مريحة، في غرف واسعة وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين وعن الحرب، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا، إذن لهربوا إلى حيث لا أدري.”
[…] رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان […]